jassim المدير العام
عضو مفضل
جائز التسجيل في المنتدى
الدولة : مملكة البحرين المشاركات+ : 18887 نقاط الخبرة+ : 15191 تاريخ الميلاد : 03/07/1996 تاريخ التسجيل : 17/03/2017 العمر : 28
| موضوع: شرفة الحياة السبت 27 يناير 2018, 5:44 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :- [size=48](( شرفة الحياة ))[/size] نورا عبدالغني عيتاني
خذ كلَّ شيء من تَرف الحياة ومتاعِها الماديِّ الزائل، وهَبْ لي شرفةً؛ فالشرفة عندي هي الحياة، وهي المادة التي لا توازيها حياة... هي مادة المعنى البهيِّ، والجسرُ الموصِّلُ للرُّوح، وهي فسحة النفس ومستراحها الحُرُّ المسافر، وانعتاقها من عُرى المجاملة والهموم والألم، ومضيقِ أحزان الحياة.
أنا لا أرى نفسي سعيدةً هانئةً إلَّا على شرفة الأماني والأحلام... أجول فيها آمنةً متأمِّلةً بناظريَّ وخافقي، وأجالسُها هادئةً مطمئنَّةً... أسامرُها بكلِّ جوارحي، وتمنُّ عليَّ بالإصغاء... أسكُن بها وتسكُن بي، أعرفها وتعرفني تمامَ المعرفة، ونِعْمَ المعرفة، فما بيننا أكبرُ من أن يُحكى ويُروى... أفهمها وتفهمُني؛ فأنا إليها أنتمي وهي منِّي تستقي حبَّها للبقاء والانتماء، للتجذُّر والرسوخ، لنصيغَ العبورَ معًا.
لنا معًا حكاياتٌ كثيرة ومُثيرة، لطالما حكيناها، وأسرارٌ لطالما بُحنا بها بعضنا لبعض بمنأًى عن المنازل والناس، وبحارٌ من العبراتِ والخواطر والأفكار... كانت لنا أمانٍ وصورٌ وأشعارٌ، وخيالات، وبحرُ أحلامٍ خجلى، منها ما طواها الزمن، ومنها ما محتْه الأيام بممحاة النسيان، لكنَّ أثرها بقي عالقًا لا يزول.
لطالما كانت مرتعي وملاذي ودُنياي الصغيرة الواسعة الرحيبة؛ حيث أُطلق لنفسي العنان وأُحلِّق دون قيدٍ أو رقيب، وبلا هموم... أُفردُ جانحي للريح وأمضي كطيرٍ لا يعرف للأسر معنًى... أنا في الشرفة أرى حقيقتي وألمس معنى الحياة الأعمق وجمالها وروعتها... وعلى الشرفة أُحبُّ الناس أكثر، حيث أغادرهم قليلًا، وأدنو بالبُعد منهم فيبدون لي من بعيد أكثرَ جمالًا وبراءةً وصِدْقًا ونقاءً.
الشرفةُ إشرافي على الجمال، وانشغالي بالمحال، وإطلالتي الرحبة الوسيعة على بحارٍ من خيال... الشرفةُ إشراقةُ شمسِ أحلامي، وتلألؤ نجوم أيَّامي، وشغفي السحريُّ الدائم بالرجوع إلى الماضي؛ حيث البِدايات الجميلة، والفرحة التائهة المسروقة من بين متاهات الزمن.
لي فيها صوت الصِّبا، وصدى البراءة حين تصافحُها الضحكات، ويضمُّها صدرُ البكاء بلا ارتياب... لي فيها صخب الهدوء، وضجيج الهدأة، وانقشاعُ غيمة الشدائد في خِضَمِّ التشبُّث بسحابات الأمل... لي فيها سكون الليل وروعة السَّحَرِ البديع... لي فيها قمر الدُّجى، ولمعة النجم السحريِّ، ودفءُ شمس النهار تُشرِق حين ينطلق الجميع انطلاقة المولود الأوَّل.
لي فيها ألَقُ النور مع العصفور حين يُغرِّد دون حدٍّ، ويسير نحو الرزق المنسكب عليه انسكابًا بلا انتظارٍ أو سابقِ تخطيط... لي فيها جلال الأذان، وبرودة الفجر الجميلة، وزخَّات المطر الخفيفة الناعمة تنثُر حبَّاتها البِلَّوْريَّة الشفَّافة بخفَّةٍ وهوادةٍ على زجاج النافذة، وقلبٌ صغيرٌ رقيقٌ ترسمه أناملُ بخارٍ ملساءُ، يضخُّ بقوَّةٍ ودويٍّ، وشوقٍ بالغ وحنين، دون أن يسمعه أحدٌ.
لي فيها نبع الطفولة، وانسكاب تراب الخجل على أرض جنوحِ الشغب الأصيل... لي فيها رملُ الوحي وشاطئ إلهامه المسترسل، وأشعارٌ تسير وأتبعها بلا تردُّد... أسير خلفها كما العمياء تُلامس نورًا يشفُّ ويتلاشى، ثمَّ يعود ليستقرَّ في عيونٍ فارقتها رياحُ الجدوى، وانتزعت منها آخر عصبٍ للحسِّ القابعِ في حنايا الأمرِ الحاسمِ والملموس.
لي فيها لمعة السكينة، وانطفاء العتمة حين أغرق في أعماقٍ من ظلماتِ اليأس غير منقطع النظير... لي فيها يداي حين تلوِّحان من بعيد لكلِّ حُزنٍ عابر، وتعاودان الكرَّةَ كل مرَّة، بشموخِ جذعٍ، وانحناء غصنٍ، يتعلَّم رويدًا رويدًا كيف يستخرجُ المعنى المقطَّر من لحاء شجرة الحكمة؛ ليستنشقَ منه مسْكَ التواضعِ، ويتوضَّأ بما تبقَّى فيه من قطرات الندى والعبير.
لي فيها عبقُ السحَر، ومؤونةُ الرحيل إلى دنيا اللارجوع... لي فيها أنا، حيث كنتُ طفلة، والرياح تُهدهِدُني بلطفٍ وهمْسٍ صادقٍ لا صوتَ له... لي فيها كلُّ ما في الكون من تراتيلَ وصلواتٍ وزهر وهتافات... لي فيها هواء النسمات، وروائح النبات، وأشجارٌ حرَّةٌ متناثرة، تُقلِّمها أيدي رجال البلدية حيث تريد أن تُظهرها بشكل أجمل من سابقه، فتفشل!
لي فيها أوراقٌ تُورقُ ثم تذبُل، لكنَّها أبدًا لا تموت، وعريشةٌ خضراءُ مُزْدانة تتسلَّق سطح جارتنا، وياسمينةٌ مُفعمةٌ بالصغر تهبُّ مع النسمات السائرات لتستقرَّ قُربي فأنْعَم ببعضٍ من شذاها والصفاء، ورسماتٌ غامضاتٌ على الحيطان أُخربشها بكلِّ فوضى، وأذيِّلُها بعباراتٍ مفهومةٍ وغير مفهومة، أكتبُها مع نفسي ولنفسي، مع كامل الحركات والتنوين، وشدَّاتٌ لطالما سخر الجميع منها، ترافق الخطَّ العجيب! وظلٌّ يمتدُّ ثم يذوب، ويختفي خلف الدروب... لي فيها عطشُ المغيب إلى الغروب، وانقطاعُ خيط الوحدة عند حدِّ الاغتراب.
لي فيها نبضٌ ودَقَّة، وصراخ طفلٍ هاربٍ نحو البياض، يقطعُ الشارع الطويلَ بخُطوتين وزهرة؛ متجاوزًا أبعادَ الطريق، واختراقَ الكرةِ الطائرة، ومجاورًا تجاوُز الأعمى الحكيم لكوَّة العقبات مع البصيرة والعصا، وأوراقه البيضاء الخالية التي أرَّقها طول عبء الانقطاع... ومنحوتةٌ قديمةٌ متكرِّرة لطالما حفرناها على الحوائط ثمَّ أودعناها زوايا الذاكرة... وخيطٌ يرفرف ويطير، حاملًا طيَّارة الورق، ثمَّ يرتدُّ نزولًا نحو الأسفل ليُثير حَنَق جارتنا غريبة الأطوار، تنشر الغسيل شاردةً على سطحها القرمزيِّ المتهالك.
لي فيها رائحة الشواء، وثلج كانون في الشتاء تبدَّى، والكستناء تُفرقِع بلا انتهاءٍ لتصنع سيمفونيتها الحلوة المعهودة مع قطرات المطر النازلة على حدائد الشُّرفة الصدئة... لي فيها عِطْر الكلمات، والخربشات، وأوراق الماضي وأقلامه المنشورة المبعثرة.
لي فيها غُربتي حين تقطنُها الكتابة، واشتياقي للعزلة، والصمْت والرحيل... لي فيها تقاسيم الخيال وحجراته، وأطيافه ومدائنه... لي فيها صلوات أمي ودعواتها لي بالتوفيق، وضحكاتها حين تسمع مني الطُّرفة تلو الأخرى حينما كنت ماهرةً أتقنُ الضحكةَ ملء فمي وقلبي... لي فيها دموعي المختبئة، وأفكاري البالية المهترئة، وخيطان متينة ماكنة أحوطها بها لتشدَّها وتحميها.
لي شجنٌ قديمٌ أودعتُه فيها، وسفينةٌ عتيقةٌ تُبحرُ في الدمعة، مع قارِب نجاة وشِراع، ثمَّ هجرةٌ بغيرِ وداع، إلى أن تكونَ لي عودة. | |
|
عبير الورد عضو مجتهد
عضو مفضل
جائز التسجيل في المنتدى
الدولة : مصر المشاركات+ : 1074 نقاط الخبرة+ : 12533 تاريخ التسجيل : 09/12/2017
| موضوع: رد: شرفة الحياة الأحد 28 يناير 2018, 5:47 pm | |
| موضوع مهم جدا و طرح مميز شكرا لك | |
|