القول قنطرةٌ إلى العمل، والعمل في حقيقته سفينة النجاة إلى الآخرة، فإن لم يُثمر القول عملاً فما فائدته؟ وأي خيرٍ يُرتجى فيه؟ وليس له صدى على أرض الواقع؟ هي والله غاية الخسران أن يُفصم بين هذين المتلازمين: "القول والعمل".
ولذلك التلازم الظاهر رتّب الله سبحانه وتعالى الفلاح في الآخرة والنجاة من الخسران عليهما جميعاً، وذلك في قوله: {إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (العصر:2-3).
ولقد أخبر رسول الهدى ومعلّم الناس الخير الأمة خبراً على سبيل التحذير من ترك العمل وإهمال التطبيق، فجعل هذه القضيّة من جملة الفتن المستقبليّة التي سيخوض الناس غمارها، ويقعون في شراكها، وسيظلّون كذلك حتى يتركوا القول والعمل جميعاً في آخر الزمان.
جاء في الحديث النبوي خبرٌ مشتملٌ على جملةٍ من أشراط الساعة كان منها ذكر كثرة القول على حساب ترك العمل، روى الدارمي في سننه، والحاكم في مستدركه وصحّحه الذهبي، أن عمرو بن قيس الكندي، قال: كنت مع أبي الفوارس وأنا غلامٌ شاب، فرأيت الناس مجتمعين على رجل، قلت: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فسمعته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من اقتراب الساعة أن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار، ويفتح القول ويخزن العمل، ويقرأ بالقوم المثناة ليس فيهم أحد يُنكرها) قيل: وما المثناة؟ قال عليه الصلاة والسلام: (ما اكتتبت سوى كتاب الله عز وجل).
وحتى يتّضح معنى "المثناة" المذكورة في الحديث ننقل قول أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "غريب الحديث": "سألت رجلا من أهل العلم بالكتب الأولى، قد عرفها وقرأها عن المثناة؟ فقال: إن الأحبار والرهبان من بني إسرائيل بعد موسى وضعوا كتابا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله تبارك وتعالى، فسموه المثناة، كأنه يعني أنهم أحلوا فيه ما شاؤوا، وحرموا ما شاؤوا، على خلاف كتاب الله تبارك وتعالى".
وحريٌّ بنا أن نتأمّل في المقابلة اللفظيّة الحاصلة بين قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ويُفتح القول) وقوله عليه الصلاة والسلام: (ويُخزن الفعل)، ترى بوناً شاسعاً ومسافةً هائلةً تفصل بين القضيّتين.
أما القول فكأنّه بابٌ فُتح على مصراعيه فتفجّرت منه أنهار الأحاديث والكلمات، والتأليف والتجميع، كلامٌ تدفّق على واقع الحياة فسالت أوديةٌ بقدرها، فاحتمل ماؤها زبداً رابياً، وكان منه الغث والسمين، والنافع والضار، والباطل المحض والحق الصراح، لكنّه على كلّ حال: انتشارٌ واسعٌ للقول وللكلمة.
وعلى الطرف الآخر النقيض نجد خزناً للعمل، كأنّ العمل على أهميّته حبيسٌ في صندوقٍ محكم الإغلاق، وقد وُضعت عليه المتاريس الثِّقال، وغُيّبت شمسه عن الواقع حتى اكتست الكلمات برودةً، ولم يعد لها ذلك التأثير الحقيقيّ على النفوس، كالزهرة المصنّعة من المواد الصناعيّة ليس لها رائحةٌ، وقديماً قال الشاعر:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملا وحسن تبصر
سيان عندي علم من لم يستفد ... عملا به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها ... لا ترض بالتضييع وزن المخسر
ولم يسبق في أمّة الإسلام أن تجلّت فيها هذه النبوءة كما حدث في عصرنا، فإننا نجد في جهةً: كثرة المنابر الإعلاميّة، والانتشار الثقافي الواسع، وكثرة المؤلّفات، والإغراق في التقعيد والتنظير لمختلف القضايا الفكريّة والثقافيّة، والشرعيّة والسلوكيّة، والأخلاقيّة والتربويّة، ولم تعد مكتوبةً فحسب كما في السابق، ولكنها أصبحت كذلك مسموعةً ومرئيّة، في حين أن ساحات العمل تكاد تخلو من العاملين بهذه العلوم والمعارف المفيدة، ويجد المصلحون صعوبةً بالغةً في نقل الناس من حالة التلقّي المجرّد إلى التطبيق العملي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد حذّر الله سبحانه وتعالى من ترك العمل فقال: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}(الصف:2-3)، وهذه الحالة الذميمة لاتقبلها المروءة، وتأباها النفوس النبيلة، ولذلك كان شعيب عليه السلام يقول لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود:88).
وترك العمل من الزيغ والضلال الذي أُصيب به أهل الكفر:{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} (الصف: 5)، قال ابن كثير: "أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان"، والتارك للعمل لا يهديه الله، ولا يوفقه للخير؛ لأنه ردّ الحق بعد أن وصل إليه وعرفه.
وذكر العلماء في تفسير قوله تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم} (آل عمران: 187) ، قول مالك: "أي: تركوا العمل به".
وجاء التوكيد على هذه القضيّة في السنّة النبوية، فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية أخرى للدارمي: (وعن علمه ماذا عمل فيه).
ولهذا الإدراك لأهميّة العمل وضرورته كان السلف الصالح يحذّرون من مخالفة القول للعمل، نقرأ في كلامهم ما يشدّد على هذه المسألة، فالعلماء إذا علموا عملوا، ولا ينتفع بالموعظة من تمر على أذنيه فتتجاوزهما، كأنها المطر إذا وقع في أرض سبخة فلم يُنبت، ومن يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل، والعمل بالعلم وتطبيقه هو الطريق إلى المعارف الجديدة والعلوم المرضيّة، فمن عمل بعلمه أورثه الله علم ما لم يعلم، وفتح بصيرته وأنار قلبه، يقول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود: "تعلموا تعلموا, فإذا علمتم فاعملوا"، وكان نقش خاتم الحسين بن علي رضي الله عنهما: "علمت فاعمل".
ونقول أخيراً ما ورد على ألسنة الحكماء إذ قالوا: " العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يُطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل" والسعيد من هدي إلى صحيح العلم، ووُفّق إلى صالح العمل، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
ولذلك التلازم الظاهر رتّب الله سبحانه وتعالى الفلاح في الآخرة والنجاة من الخسران عليهما جميعاً، وذلك في قوله: {إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (العصر:2-3).
ولقد أخبر رسول الهدى ومعلّم الناس الخير الأمة خبراً على سبيل التحذير من ترك العمل وإهمال التطبيق، فجعل هذه القضيّة من جملة الفتن المستقبليّة التي سيخوض الناس غمارها، ويقعون في شراكها، وسيظلّون كذلك حتى يتركوا القول والعمل جميعاً في آخر الزمان.
جاء في الحديث النبوي خبرٌ مشتملٌ على جملةٍ من أشراط الساعة كان منها ذكر كثرة القول على حساب ترك العمل، روى الدارمي في سننه، والحاكم في مستدركه وصحّحه الذهبي، أن عمرو بن قيس الكندي، قال: كنت مع أبي الفوارس وأنا غلامٌ شاب، فرأيت الناس مجتمعين على رجل، قلت: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فسمعته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من اقتراب الساعة أن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار، ويفتح القول ويخزن العمل، ويقرأ بالقوم المثناة ليس فيهم أحد يُنكرها) قيل: وما المثناة؟ قال عليه الصلاة والسلام: (ما اكتتبت سوى كتاب الله عز وجل).
وحتى يتّضح معنى "المثناة" المذكورة في الحديث ننقل قول أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "غريب الحديث": "سألت رجلا من أهل العلم بالكتب الأولى، قد عرفها وقرأها عن المثناة؟ فقال: إن الأحبار والرهبان من بني إسرائيل بعد موسى وضعوا كتابا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله تبارك وتعالى، فسموه المثناة، كأنه يعني أنهم أحلوا فيه ما شاؤوا، وحرموا ما شاؤوا، على خلاف كتاب الله تبارك وتعالى".
وحريٌّ بنا أن نتأمّل في المقابلة اللفظيّة الحاصلة بين قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ويُفتح القول) وقوله عليه الصلاة والسلام: (ويُخزن الفعل)، ترى بوناً شاسعاً ومسافةً هائلةً تفصل بين القضيّتين.
أما القول فكأنّه بابٌ فُتح على مصراعيه فتفجّرت منه أنهار الأحاديث والكلمات، والتأليف والتجميع، كلامٌ تدفّق على واقع الحياة فسالت أوديةٌ بقدرها، فاحتمل ماؤها زبداً رابياً، وكان منه الغث والسمين، والنافع والضار، والباطل المحض والحق الصراح، لكنّه على كلّ حال: انتشارٌ واسعٌ للقول وللكلمة.
وعلى الطرف الآخر النقيض نجد خزناً للعمل، كأنّ العمل على أهميّته حبيسٌ في صندوقٍ محكم الإغلاق، وقد وُضعت عليه المتاريس الثِّقال، وغُيّبت شمسه عن الواقع حتى اكتست الكلمات برودةً، ولم يعد لها ذلك التأثير الحقيقيّ على النفوس، كالزهرة المصنّعة من المواد الصناعيّة ليس لها رائحةٌ، وقديماً قال الشاعر:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملا وحسن تبصر
سيان عندي علم من لم يستفد ... عملا به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها ... لا ترض بالتضييع وزن المخسر
ولم يسبق في أمّة الإسلام أن تجلّت فيها هذه النبوءة كما حدث في عصرنا، فإننا نجد في جهةً: كثرة المنابر الإعلاميّة، والانتشار الثقافي الواسع، وكثرة المؤلّفات، والإغراق في التقعيد والتنظير لمختلف القضايا الفكريّة والثقافيّة، والشرعيّة والسلوكيّة، والأخلاقيّة والتربويّة، ولم تعد مكتوبةً فحسب كما في السابق، ولكنها أصبحت كذلك مسموعةً ومرئيّة، في حين أن ساحات العمل تكاد تخلو من العاملين بهذه العلوم والمعارف المفيدة، ويجد المصلحون صعوبةً بالغةً في نقل الناس من حالة التلقّي المجرّد إلى التطبيق العملي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد حذّر الله سبحانه وتعالى من ترك العمل فقال: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}(الصف:2-3)، وهذه الحالة الذميمة لاتقبلها المروءة، وتأباها النفوس النبيلة، ولذلك كان شعيب عليه السلام يقول لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود:88).
وترك العمل من الزيغ والضلال الذي أُصيب به أهل الكفر:{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} (الصف: 5)، قال ابن كثير: "أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان"، والتارك للعمل لا يهديه الله، ولا يوفقه للخير؛ لأنه ردّ الحق بعد أن وصل إليه وعرفه.
وذكر العلماء في تفسير قوله تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم} (آل عمران: 187) ، قول مالك: "أي: تركوا العمل به".
وجاء التوكيد على هذه القضيّة في السنّة النبوية، فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية أخرى للدارمي: (وعن علمه ماذا عمل فيه).
ولهذا الإدراك لأهميّة العمل وضرورته كان السلف الصالح يحذّرون من مخالفة القول للعمل، نقرأ في كلامهم ما يشدّد على هذه المسألة، فالعلماء إذا علموا عملوا، ولا ينتفع بالموعظة من تمر على أذنيه فتتجاوزهما، كأنها المطر إذا وقع في أرض سبخة فلم يُنبت، ومن يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل، والعمل بالعلم وتطبيقه هو الطريق إلى المعارف الجديدة والعلوم المرضيّة، فمن عمل بعلمه أورثه الله علم ما لم يعلم، وفتح بصيرته وأنار قلبه، يقول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود: "تعلموا تعلموا, فإذا علمتم فاعملوا"، وكان نقش خاتم الحسين بن علي رضي الله عنهما: "علمت فاعمل".
ونقول أخيراً ما ورد على ألسنة الحكماء إذ قالوا: " العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يُطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل" والسعيد من هدي إلى صحيح العلم، ووُفّق إلى صالح العمل، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
منقول